يقرأ
العقاد سيرة أبي الشهداء باعتباره تجسيداً مختصراً لطبيعة الصراع البشري، أو ''مشكلة
الحياة الكبرى'' كما يعبّر، وهي مشكلة يرى العقاد أنها لم تتغيّر منذ لحظة كربلاء،
فـ''لم تزل الحرب على أشدّها بين خدّام أنفسهم، وخدّام العقائد والأمثلة العليا،
ولم يزل الشهداء يصْلوْنها ناراً حامية من عبيد البطون والأكباد''، (الحسين أبو
الشهداء، المقدمة). بعد أن يقرأ العقاد كتابه ويستأنف التجوال فيه، فإنه يخرج
بمحصلةٍ تتطلب وقفة متأملة. فالشعور الذي يستولي عليه هو الرثاء لحال هذه ''الإنسانية
المسكينة''، فهي ''لا تزال في عطش شديد إلى دماء الشهداء، بل لعل العطش الشديد
يزداد كلما ازدادت فيها آفات الأثرة والأنانية ونسيان المصلحة الخالدة في سبيل
المصلحة الزائلة، أو لعل العطش الشديد إلى دماء الشهداء يزداد في هذا الزمن خصوصا
من دون سائر الأزمنة الغابرة، لأنه الزمن الذي وُجدت فيه الوحدة الإنسانية وجوداً
مادياً فعليا، وأصبح لزاماً لها أن توجد في الضمير، وفي الروح''. ''الوحدة
الإنسانية اليوم حقيقة واقعية عملية، ولكنها حقيقة واقعية عملية في كلّ شيء، إلا
في ضمير الإنسان وروحه''. ويقول العقاد إن هذه الوحدة المأمولة ''لن توجد إلا إذا
وُجد الشهداء في سبيلها''، وهو يُقدّم الحسين الشهيد بوصفه رسالة إلى الضمير
الإنساني، حيث إنه ''لا بقاء للإنسانية بغير الاستشهاد''. لا شك بأن هذه الخلاصة
إشكالية، والغريب أنها جاءت في زمن مُبكر جداً عن عصر الراديكالية الإسلامية
المعاصرة، ولكنها تحمل استشفافاً عميقاً لمعنى الشهادة التي جسّدها سيد الشهداء. فالعقاد
يرى الشهادة، على مثال الحسين وقيمه، حياةً للإنسانية كلها، وغياب الروح
الاستشهادية في سبيل هذا المثال هو علامة على تقهقر الإنسانية وتمزّقها الروحي. وهنا
تأتي قيمة الحسين في نظر العقاد.
ولنترككم
الآن إلي مقدمة الكتاب بقلم مؤلفه الأستاذ العقاد
"عجبا
! إن مشكلة الحياة الكبرى لم تتغير منذ ألف وثلاثمائة سنة، ولم تزل الحرب على
أشدها بين خدام أنفسهم وخدام العقائد والأمثلة العليا، ولم يزل الشهداء يصلونها
نارا حامية من عبيد البطون والأكباد، ولم يزل داؤنا العياء كما قال أبو العلاء.
كان
هذا شعوري بكتاب "أبي الشهداء" حين قرأته من جديد لتقديمه إلي هذه
الطبعة، مسكينة هذه الإنسانية.. لا تزال في عطش شديد إلي دماء الشهداء، بل لعل
العطش الشديد يزداد كلما ازدادت فيها آفات الأثرة والأنانية ونسيان المصلحة
الخالدة في سبيل المصلحة الزائلة.
نتفاءل
أو لا نتفاءل... نتشاءم أو لا نتشاءم..
ليست
هذه هي المسألة، وإنما المسألة هي أن طريق التفاؤل معروف وطريق التشاؤم معروف، فلا
تتحقق مصلحة الإنسانية إلا إذا عمل لها كل فرد من أفرادها، وهانت الشهادة من أجلها
على خدامها، وتقدم الصفوف من يقدم على الاستشهاد ومن ورائه من يؤمن بالشهادة
والشهداء.
لا
عظة ولا نصيحة، ولكنها حقيقة تقرر كما تقرر الحقائق الرياضية، فلا بقاء للإنسانية
بغير العمل لها، ولا عمل لها إن لم ينس الفرد مصلحته، بل حياته في سبيلها..
لا
بقاء للإنسانية بغير الاستشهاد..
وفي
هذه الآونة التي تتردد فيها هذه الحقيقة في كل زاوية من زوايا الأرض نلتفت نحن
أبناء العربية إلي ذكرى شهيدها الأكبر ..فنحني الرءوس إجلالا "لأبي الشهداء"."
من
هذه النظرة المختلفة يأتي هذا الكتاب العظيم ليحول قصة الصراع بين الحسين بن علي
رضي الله عنهما وبين يزيد بن معاوية من مجرد قصة صراع عادية إلي قصة صراع عالمي
قديم وأزلي بين خدام العقائد والمثل وبين خدام أنفسهم.
إنه
كتاب يستحق القراءة لقصة تستحق التدبر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق