الاثنين، 19 نوفمبر 2012

عباس العقاد والنكتة السياسية


في العام 1946 نشر الكاتب عباس محمود العقاد مقالة بعنوان ((الفكاهة في السياسة في مجلة الاثنين المصرية)) ومما جاء فيه:
راجع الف من  صور الحكام بأمرهم او الدكتاتوريين، وراجع معها الف صورة من صور الحكام الديمقراطيين في مختلف الاوضاع والاشكال..,فمن المحقق انك لا تجد في صور الدكتاتوريين صورة واحدة باسمة مشرقة بالرضى والسماحة الا من قبيل المصادفة والاتفاق.. ولا تجد في صور الزعماء الديمقراطيين صورة واحدة عابسة متجهمة، الا من قبيل المصادفة والاتفاق كذلك.. ولا عبرة في الحالتين بالفلتات النادرة، وانما العبرة بالحالة الشائعة التي يطرد عليها القياس.
وليس هذا الاختلاف بين مظاهر الدكتاتوريين ومظاهر الزعماء الديمقراطيين، بالاختلاف العارض الذي يخلو من الدلالة .
كلا .. بل هو اختلاف اصيل له دلالته ومعناه. ومعناه ان الدكتاتورية تقوم على التخويف والارهاب واظهار السطوة والجبروت وان الزعامة الديمقراطية تقوم على التفاهم والايناس وتبادل الموافقة والاقناع.
ولهذا كانت الفكاعة، او الروح الفكاهية، عنصراً من عناصر الحكم الديمقراطي، لا غنى عنها للزعماء ولا لدعاة السياسة الشعبية وكان اشهر الزعماء الديمقراطيين، من اشهرهم كذلك بالنكتة والفكاهة، الى جانب قدرتهم على الخطابة والبيان.
والفكاهة عند هؤلاء الزعماء الديمقراطيين، وسيلة للاقتراب بينهم وبين الشعوب، ووسيلة ايضاً للدفاع عن انفسهم والتخلص من المواقف المحرجة التي تعرضهم لها فكاهة الجماهير.
فهي درع وسيف، وهي وقاية وسلاح.
وقد كانت كذلك في يد لويد جورج، وكانت كذلك في يد جورج كليمنصو، وكانت كذلك في يد سعد زغلول..
لما وقف لويد جورج ليتكلم عن «الهوم رول» او الاستقلال الداخلي في ايرلندة، قال انه سيعترف بالهوم رول لايرلندة، ولاسكتولندة ولبلاد الغال و .. و .. و .. 
فقاطعه بعض السكارى صائحاً: (ولجهنم ! او قال له بالانجليزية And to Hell )
وهي ترادف قولنا بالعربي: اذهب الى صقر. او الى حيث القت رحلها ام قشعم! .
فلو لم تكن الفكاهة من اسلحة لويد جورج لباخ في ذلك الموقف، وضاعت الخطبة كلها، وضاعت الدعوة الانتخابية التي كان يدعو اليها   بين تلك الجماهير.
ولكنه ما لبث ان رد الضربة الى صاحبها وقال على الفور قبل ان تغرقه النكتة في امواجها اللجية: (( حسن ان يذكر كل انسان وطنه في هذا المقام)) !! .
فخرج من المعمعة ظافراً بهذه النكتة العاجلة ولولاها لخرج منها بغبار الهزيمة.
وسئل سياسي ايطالي، لعله الكونت سفورزا، عن لويد جورج هل يعود الى الحكم بعد الغلطات التي ارتكبها؟ فقال لسائله: هناك غلطة واحدة يا عزيزي تحول بين السياسي وبين العودة الى الحكم مرة اخرى، وليست لها ثانية! .
فقيل له: ما هي؟ قال: ان يموت! .
وفكاهات سعد زغلول في البرلمان وفي المحافل العامة اشهر من ان تحتاج الى ترديد، ولكننا نذكر منها واحدة هنا على سبيل المثال، وهي قوله لذلك الوجيه الضخم المعروف بالفكاهة يوم انعقد مؤتمر الاحزاب برئاسة سعد رحمه الله، فنهض الوجيه الضخم مازحاً يقول: ان كانت المسألة «بالتخن» فأنا اولى بالرئاسة. قال سعد: نعم. لو كانت « بتخن» العقل يا فلان! .
هذه الضربات الفكاهية لا محل لها بين الساسة المستبدين، ولكنها الزم ما تكون في مواقف الساسة الديمقراطيين، ولا سيما مواقف الحرج والتعرض للمناوشات اللسانية في وسط الجماهير.
لكن «الفكاهة» تقوم ببعض الادوار في عهود الاستبداد وان كانت تقوم به على السنة الشعوب لا على السنة السادة المستبدين.
فهي بين الشعوب المغلوبة وسيلة للتنفيس عن القلوب المكظومة ووسيلة للانتقام ومقابلة العدوان بالعدوان.
ومصر من اشهر الامم بهذه الفكاهة من اقدم العصور، فقد كان قياصرة الرومان يحسبون حساب «القفاشين» في الاسكندرية وهم قابضون على ناصية المغرب والمشرق في المدينة الخالدة.
ولا تظن ان امة من الامم ابدعت من القفش السياسي ما ابدعه المصريون على عهد صلاح الدين وصوبوه الى وزيره «قرقوش» وهو اقدر وزراء زمانه واكثرهم اصلاحاً في المدينة وفي البلاد، ولكن «النكتة» الظالمة طغت في سيرته على حقائق التاريخ.
اما في العصر الحديث، فالقفشات المصرية التي اصابت الترك واليونان والانجليز لا تزال على الالسنة في الحواضر والارياف، وان اوشكت ان يطويها النسيان 0 والاستبداد حاكم رديء، ولكنه معلم حسن للفاكهة وان اصيبت به شعوب لم تكن معروفة بالسخرية والتنكيت.
فالالمان والروسيون والايطاليون قد ابدعوا في العهد الاخير طرائف من النكات السياسية تضيق بها الصفحات. ولكننا نشير الى نكتة واحدة من نكات كل امة على سبيل النموذج الذي يدل على سائرها .
ففي المانيا نكتة الفوهور الذي دخل الى مقصورة المجانين المفتونين بمحاكاته وهم اربعة، ثم فتح باب المقصورة فخرج منها شخص واحد، ولا يعرفون من هو الى الآن!0
وفي روسيا يروي الفلاحون انهم دعوا الى العاصمة لتنوير اذهانهم بالفرجة على المخترعات الحديثة، ومنها محطة الاذاعة الكبرى التي تخاطب العالم بأسره، فلما طلب اليهم ان ينتخبوا واحداً منهم يقول كلمة واحدة في المذياع ولا يزيد عليها في مخاطبة العالم وقف وصاح: الحقونا!0
والايطاليون يتحدثون عن زيارة موسوليني لمستشفى الامراض العقلية وهتاف النزلاء جميعاً للدوتشي العظيم بالمجد والحياة .. ثم رأى واحداً لا يهتف مع الهاتفين فسأل عنه فقيل: هذا ليس من المصابين!0
وتنظر الحكومات الدكتاتورية الى هذه «القفشات» نظرتها الى الاسلحة المهربة، ولكنها لا تبلغ من الحكمة ان تطلق لها العنان لتستدل بها على درجة الاحتمال او درجة الغليان. وهذا هو الفارق بينها وبين الحكومات الحرة التي تتقبل السخرية لانها لا تدعي صفات «الالهية» ولا تخشى ان تنزل في عيون رعاياها منزلة الادميين المعرضين للنقد والاستهزاء.
قيل للرئيس «لوبرون» الفرنسي: ان الفاشية ستطغى على الامة الفرنسية، قال: لا . ما دامت قادرة على السخرية من رؤسائها ووزرائها. فهذا هو صمام الامان، او هذا هو الفارق بين حكام يريدون من الناس العبادة فلا يطيقون الفكاهة، وحكام من البشر يضحكون ويستهدفون لاضاحيك الضاحكين.
قيل في اساطير الاولين:»ان الرعد ضحك الارباب» وقال الشعراء:»ان البرق يضحك من بكاء الغمام» .
وفي الطبيعة الانسانية، كما في الطبيعة الجوية، امثال كثيرة لامتزاج الصواعق بالضحكات، واختلاط الومضات بالدموع.
وهكذا تشغل الفكاهة مكانها في عالم السياسة، سواء في عصور الاستبداد او عصور الحرية، ويخاف الضحك احياناً من لا يخاف الجيوش والسيوف .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق